تعثَّرت في كتاب بعنوان “لن نموت ساكتين” دفعني فضولي لقراءتِه، تدور فِكرته حول اثنين “عزيز – سدرة” تحت أسماء مُستعارة يتبادلان الرسائل ربما هي فِكرة ليست جديدة، لكن فحواها مُختلفٌ بطريقةٍ ما، قد يتبادر للذهنِ لأولِ وهلةٍ أنها رسائل غرامية، وهي ليست كذلك إطلاقًا.
ثمةُ شخصين يحبَّانِ الكتابة، قررا أن يتراسلا كصديقين، الرسائل لا تحوي حكيِ اعتياديْ، لكنها ثرثرة من نوعٍ خاص.
شعرتُ في بدايته أنه مملٌ نوعًا ما، أو أن هناك شيء ناقص لا أدري ما هو.
س: ما الذي يدفعكِ للكتابة عنه إذن؟
لأن الأمور لم تسر بنفسٍ الوتيرة، وما كان بدايةً لم يكن كالنهايةِ أبدًا.
أخبرني صديقٌ ذات مرة “الأرواح المُتشابهة تلتقي، دومًا ما تجد طريقًا لذلك”.
الظروف المُحيطة بالكاتبينِ قد لا تسمح لهما بالتلاقي، لا تسمح لهما بأشياءٍ عديدة، لكن أرواحهما المتشابهة فعلت.
عفويةُ وأريحية أن تحكي لغريب، تحكي وهَنكَ، مشاكلك، عبثك، حتى أخطاءك، يأسك، رغبتك في الانتحار، هي أشياء قد لا تجرؤ على مُشاركتها مع أحد.
أن تكون مُتحررًا معه فلا تخشى شيئًا، لا سوء ظن ولا نظرة خبيثة.
النصفُ الأخير من الكتاب أكثر حُزنًا لدرجة أنه أثقل روحي بما حَملتهُ داخلها ووارته عن الأعين بل عن نفسها.
قلتُ في مرة “الحُزنُ أحيانًا ما يجذِب” يبدو هذا سببًا مُقنعًا جذبهما لبعضهما “عزيز وسدرة” حزينان حُزنًا مُتشابهًا، حزنًا يجعل من كلٍ منهما حين يثرثر يستطيع الآخر أنه يفهمه جيدًا بل ويشعر بهِ جيدًا حتى وإن بدت الحروف فوضوية أو غير مفهمومة للقارئ، حتى وإن لم يلتقيا، ربمَّا ظروف أن يحيا بنفسِ البلدِ، نفسِ المُناخَ المُختنق، العادات والتقاليد، كل ذلك ساعد على أن يقتربا مسافة كليومترات دون أن يتحرك أحد منهما من مكانه.
الكتاب لن يُستساغ لفئة، لكن هناك فئة ما أخرى سيرهقها لما يحتويه من كتابةٍ قد تمسهم جدًا.
تُخبِرهُ: “دعنا نتحدث عن تلك الآلام الصغيرة المتغلغلة الفظيعة التي تحز في النفس دون أن تتمكن من قولها لأحد”.
“الأيام لا تذهب ولا تموت إنها تختبئ وتتراكم في خلايانا”.
“إنه ذلك النوع من السخرية التي تجعلك تشعر أنك تمتلك شيئًا أنت لا تملكه في الحقيقة”.
يُخبرها: “أكتبُ لكِ عن جوهر الأشياء، وذاتها، ووطأتها، إن المرء الذي يُشبهنا والذي تعيقه الكثير من التفاهاتِ مثل اللحن، الموسيقى يبدو مُفرح، لكن في جوهره حزين جدًا، نحن الألم، نحن لا نتألم، نحن الجوهر، نحن الذات نفسها في الأشياء”.
الحزينون وحدهم، ذوي الأرواح المُثقلة، الفئة الحزينة من الكتَّابِ خاصة، الآسفون لأنهم يرون كل شيء، يُلاحظون كل شيء، الراغبون بالاندثار، المتمنون للتبخر وأن يصيروا سحابًا يُمطر فيسبب بهجة لأحدهم، ثم يختفي كل شيء.
إنه لذوي الأوجهِ المُختلفة، الظاهرون عكس ما يضمرون، الرافضون لأي انحناءة قد تظهر رغم انكسارٍ قلوبهم.
المكبلون بقيودٍ لا يراها سِواهم، القُرَّاء الذين يتمنون لو لم يقرأوا، لو لم يعرفوا أشياءً جعلت كل شيء مختلفًا، الذين يرون أن المعرفة أحيانًا ما تكون نقمة، وأن العلاقاتِ تُثقلهم فيفرون هاربين منها.
الراغبون بأن يكونوا أكثر تفاهة، أو أن يصابوا بفقدانٍ للذاكرةِ.
أولئك الواقفون في المنتصفاتِ، الذين صارت كل مُلهياتِ الحياة لا تُجدي نفعًا معهم لأن الثقب بداخلهم في اتساع، البقعة السوداء تكاد تلتهمهم.
المخذولون، الآملون في وحدةٍ وعزلةٍ لا يشوبها شائبة.
يقول عزيز عن الكتاب الذي يريد كتابته، أنه لا يريد شهرة ولا اسمًا معروفًا، ولا أي نوعٍ من المديح، يريد أن يصدر كتابًا ليقرأه من يقرأه ويضعه في رف كتبه وقد لا يفكر في قراءته مرةً أخرى.
كان يريد أن يُحدث ضجيجًا فقط، أن يصدر صوت نحيب، أن يصرخ ولو على الورق فقط، أن يشعر بنشوة أنه تحدث أخيرًا وأنه لن يموت ساكتًا.
لن نموت ساكتين
صفحة الكتاب على الجود ريدز
يُمكنك قراءته وتحميله من هُنا