الرواية لإيفان كليما صدرت في عام 2013م ، الرواية واقعية بشكل مؤلم ، ورغم كبر حجمها نوعًا ما إلا أنني لم أشعر بالملل أبدًا ، إنها أحدى تلك الروايات التي تسبب نوعًا من الارتباكات النفسية الداخلية ، رواية الحقائق كما هي عارية تمامًا .
الحقائق المؤلمة ليست دومًا فقرًا أو قمعًا او حتى حربًا ، للحياة المؤلمة صور كثيرة منها ما لا يدور إلا داخلنا . الماضي لا ينفصل عن الواقع وإن توقَّفت أحداثه عن الاستمرار فلا تتوقف نتائجه عن اللحاق بنا إلى الحاضر ، المستقبل – أحياناً . ماضينا يؤثر على تصرفاتنا ، أحتياجاتنا ، ردود أفعالنا تجاه الأشياء بل والاشخاص أيضًا .
لا أحد يستطيع أن يقرأ المعارك التي تحدث داخلك والتي تربطها لا إراديًا بما مضى ، آلامك الخاصة ، تأثير الأشياء والمواقف عليك ، أن تحيا في الحاضر لكن كجسد ، وجزء كبير منك لازال عالقًا هُناك ، متصلِّبٌ عند نقطة ما في الماضي ، لا يستطيع أن يتخطاها ولا يقدر أن يمضي قدمًا ، يهرب دائمًا منها لكن يعود إليها .
كريستيانا ذات الأربعين عامًا وقليلًا ، والتي عاشت مع والدها ذو التفكير الصارم ، وكيف أنها تتذكر ، بل كيف لم تستطع أن تنس أنه لم يفرح بقدومها ولا احتفل بها لأن يوم عيد ميلادها صادف موت الطاغية الذي يحب ، لتمر الأيام باردة بينهما وتزداد الفجوة أكثر .
يترك أبوها أمها لأجل إمرأة أخرى ، بالطبع يؤثر هذا عليها مرة آخرى ، الأشياء تتراكم مع الوقت لا شيء يزيل شيء ، لا إصلاح بينهما . وعندما تتزوج كريستيانا يتركها زوجها هي الأخرى ، الأحداث تُعيد نفسها أحياناً بشكل مُقيت .
الماضي لا ينقطع عن الحاضر ، تُفلت كريستيانا زمام أبنتها تماماً اعتقاداً منها أنها بذلك انها تُعطيها بعض الحرية التي سُلبت منها وهي صغيرة . لقد ظلت كريستيانا تلوم والدتها على أنها لازالت تفكر في أباها رغم كل ما فعله ، هي التي ظلت كذلك في انتظار زوجها أن يعود يومًا ما وإن لم تفصح عن الأمر علانيةً .
لقد كان ماضيها دائمًا محاصرًا لها ، كانت تدخل في نوبات أكتئاب مطولة ، أهملت ابنتها الوحيدة ولم تستطع أن تقدم لها شيء ، لم تحم نفسها أو ابنتها .. فقط عاشت في الماضي .
الرواية تطرح الواقع بكل حيرته في الاختيارات ، هل أخطأت كريستيانا في الانفصال عن زوجها ؟ وهل كانت والدتها على صواب ؟ حيرتها الكثيرة وترددها مع ابنتها ، كانت تعيش في حقبة زمنية مختلفة لذلك لم تستطع أن ترى الواقع كما يجب .
الأحداث تتسارع ، الماضي يُخبىء الأحداث ، وإما أن تنكشف أو تموت مع صاحبها للأبد ، وحتى إن انكشفت بعد ذلك يكون قد انتهى كل شيء .. نحن لا نأسى على الموتى ولا نستطيع أن نقتص منهم .
أحداث الماضي تصنع المستقبل ، لا مع كريستيانا فقط ، بل مع أخيها غير الشقيق الذي ألقى بنفسه في النهر فارتطم بحجر فصار عاجزًا لبقية حياته ، أفكر ما الذي قد يدفع شخص ما لفعل لذلك ، إنهم لا يهتمون لأمره ، أو تحديدًا والده لا يتهم به ، بل لم يزره بعد الحادث ، ربما أراد أن يصنع شيئًا ما ، حدثًا ما ، جلبة ما ، لكنه للأسف لم يدفع ثمنها سواه .
في حوار بسيط يدور :
-” كنتُ آمل أن يزول الألم وحده ”
– ” الألم لا يزول وحده أبدًا ”
لأن الآلام لا تبرح أماكنها بسهولة ، لا تأتِ وتمضي هكذا ، يجب أن تجلس كما تحُب ، تأكل في الروح وفي الجسد ، تُحدث ثقوبًا في مختلف الأماكن ، تلتصق بك ، كلما حاولت الفِرار منها باغتتك من مكان آخر .
يقول الكاتب على لسان أحد شخصياته : ” كم تبدو حكاياتنا مثيرة للشقفة حين نعاود النظر إليها “.
ككلِ أو أغلب الأشياء \ الاحداث \ الحكايات ، لماذا ؟ هل لأننا حينها نكون في موقفٍ ضعيف مثلًأ ؟ أو لأننا عندما نكون داخل الدائرة لا نبصر جيدًا ؟ هل لأننا مع الوقت نزداد صلابة وخبرة فتصبح آلام الأمس أسباب لضحك اليوم ؟ هل لأننا بعد ذلك نمر بأشياء أكثر صعوبةً فيكون حينها ما مضى يبدو أقل ألمًا ؟
يقول أيضًا : ” ظننتُ أنها ستنفجر بالبكاء وهي تتحدث عن الأمر ، استطعت أن ألحظ أنها تبكي من داخلها على جرائم مرتكبة منذ أزمنة وجرائم وحشية أرتكبت في حق أقاربها ، هل يمكن العيش في عالمٍ كهذا ؟ إنها لا تتوقع شيئًا من الحياة ؟ لا تنتظر شيئًا حقًا “.
الذين يعيشون في الماضي يصعب عليهم أن يشعروا بالأمانِ للحاضر ، الذين خُذِلوا مِراراً في الماضي يصعب عليهم أن يؤملوا كثيرًا في الحاضر ، إخفاقاتهم مرسومة على جبينهم ، لا تفارقهم ، كيف يمكن التخلص من كل ما حدث هكذا وكأنه لم يحدث ؟
كيف يكون في مقدور الواحد منا أن يطوي الصفحات المشوهة أو يقطها ؟ دون أن تؤثر عليه ؟ ودون أن يتذكرها ؟ ودون أن يحاول محوها فلا تُمحى؟
الذكريات التي تؤلم تبقى وكل شيء فيما عداها يتبخر .
يقول : ” الناس في الغالب يجرحون الأقرب إليهم ” وأتساءل لم ؟ هل لكثرة التعامل معاهم دون غيرهم والتعرض لمواقف كثيرة تجمعنا بهم ؟ هل لأنهم لا يتوقعون رحيلنا فجأة ؟ هل هو اعتقاد ما أن محبتهم سوف تغفر لهم عندنا ؟ لا أدري .
يقول : ” إنني أعيش في خوفٍ وأرفض رؤية ما أبصرته هي من أول نظرة ”
الماكثون في الماضي ، في دائرة ما حدث ، يخافون الإبصار لربما لكثرة ما أبصروه وآلمهم . الماضي مخيف ، يجعل من الناس يربطون ما بين كل أحداث الحاضر وما حدث من ذي قبل . الخوف من أن تتكرر القصص بآلامِها ، بتفاصيلها .
يقول : ” نحن جميعًا ينقصنا شيء ” نحن جميعاً ينقصنا شيء ، أحياناً ندركه أحياناً لا ، الجزء الناقص منَّا هو أكثر ما يؤرقنا ، هو ما قد يجعلنا لا نبصر كل ما لدينا ، الجزء الناقص من الصورة ، ذو المكان الفارغ ، حوافه تؤلم لأنها فارغة وجوفاء.
يقول : ” يجب أن تعرفي أنه شيء كالمرض أحياناً لا يسعني فعل شيء حين يصيبني ” الحزن يعتبر مرضُا ، أو كالنوبات التي تصحب بعض الأمراض ، لا حيلة لنا فيها ، إلا أن الحزن لا دواء له نهرع إليه كي نتخفف من آلامه سريعًا ، لا علاج له ، الروح الحزينة يصعب أن تشفى ، لا ليس مستحيلًا لكنه صعبًا ، الحزن سرطان يأكل في الروح يتكاثر فيها ويؤثر علي كل شيء بها .
يقول : ” لا أقول لها إننا ندمر حياتنا بأنفسنا ” ” ربما كنتُ أنا مرضي الخاص ” بثينة العيسى تقول : ” نحن ضحايا أنفسنا الآخرون مجرد حجة ” ربما هي على حق ، نحن من نسبب لأنفسنا الآلام ، من نختار وندفع أثمان أختياراتنا ، من نرفض أو نوافق وندفع الثمن ، من نحب وندفع الثمن ، من نثق وندفع الثمن ، من نزج بأنفسنا إلى التهكلة احياناً – وندفع الثمن أيَضًا .
لكن ماذا إن كنا لم نفعل شيء ؟ وساقت الدنيا الأشياء إلينا فقط ؟ ماذا ؟
ربما حينها سنكون ضحايا أنفسنا لأننا لم نحاول الخروج ، أو تخاذلنا في حق انفسنا ، تلذننا بالأمر ، دور الضحية أكثر سهولة في الاداء عنه عن غيره .
ربما نكون نحن أمراض أنفسنا ، الأشخاص الذين تكون حروبهم الداخلية أكثر من حروبهم الخارجية مع الآخرين ، الذين هم مشكلة نفسهم ، هم المحور دائمًا . أتساءل كيف نُشفى من أنفسنا ؟
يقول : ” الصبر هو المهم ” والصبر هُنا قد يكون صبرًا على الواقع ، أو علي أنفسنا ، علي الآخرين ، ربما أيضًا الصبر على الشفاء ، أنه يومًا ما سيكون كل شيء على ما يرام ، ألا نيأس من الأمر وأن لكل شيء نهاية وإن تأخرت.
يقول : ” على المرء أن يكون قادرًا على التصالح مع الناس حتى وإن لم يستطع التصالح مع أفعالهم ” نحن نكره الأفعال ، الجروح التي يسببونها ، خلافنا مع الفعِل ، لكن كيف يمكننا أن نفصل ما بين الشخص والفِعل ؟ كيف ننسى الفِعل كلما حدقنا بوجه الشخص ؟ كيف ننسى الفِعل ونظل نذكر الشخص ؟
أختتم بقوله : ” الحقيقة أن الطريقة الوحيدة للبقاء هي اللامبالاة بالأشياء التي نكرهها والتي تزعجنا في البشر والعالم “