“ولادة ثانية” هي المذكرات المبكرة التي كتبتها الكاتبة سوزان سونتاغ ما بين عامي 1947 و1963 أي عندما كانت ما بين الرابعة عشرة والثلاثين، قام ابنها بنشرها.المذكرات أو اليوميات الشخصية هو نوع خاص من الأدب باختلاف الروايات لا يقوم الكاتب بسرد تفاصيل البطل أو البطلة الذي رسم شخصيته أو حدد تفاصيل حياته، بل يقوم بسرد تفاصيل حياته الشخصية رافعًا الستار عن بعض الأسرار التي قد تكون شديدة الخصوصية والحميمية في بعض الأحيان.
بطبيعة الحال.. اليوميات الشخصية تعطي شعورًا بالتواصل المباشر مع الكاتب، الإدراك بأن ما تقرأه حقيقي وحدث بالفعل لا محض خيال، أن الكاتب يروي لك خصيصًا لا مجرد أحداث من أجل المتعة وإنهاء الراوية بل حقائق وواقع.بقدر الصدق التي تحمله اليوميات بقدر ما تفشي أسرارًا، نشر اليوميات يحتاج لشجاعةٍ وتصالح مع الذات، مع الحياة وأننا بشريون جدًا ولسنا ملائكة.
تعرّض “ولادة ثانية” لبعض الآراء التي لن أقول سلبية لكن غير المتفقة مع مضمون المذكرات بحكم أنها قد تبدو حميمية بشكل قد لا يتوافق مع الجميع “تفاصيل حياتها واضطراباتها الجنسية”، الأمر الذي دفعني للتساؤل لماذا لا يتصالح الآخرون مع الأسرار؟ مع عيوب الطرف الآخر؟ رغم أن للكل أسراره التي قد لا تتفق مع الآخرين.لماذا يبدو الاعتراف بالواقع \ بالحياة صعبًا؟، إنهم يخطئون جميعًا، ربما يتصالحون مع أخطاءهم في الخفاء لكن لا يحبون أن يسمعوا أخطاء الآخرين حتى وإن بدت بشرية جدًا، لماذا يطلقون الأحكام المسبقة على الآخرين وكأنهم ملائكة معصومة من الخطأ؟ من منا معصوم من الخطأ بالأساس، من منا بلا أخطاء لينتقد أخطاء الآخرين.. المذكرات الشخصية أقرب تشابهًا لحياتنا، مواقفنا، خيباتنا
.تقول سوزان: “هذا الهوى مرض، حالما اعتقدت أني استعدت سيطرتي، شفيت نفسي حتى ينهض من جديد ويسدد لي لكمة تحت الحزام، كنت أفكر بأني أقل حبًا لأن هذه العلاقة تفسدني، وهجوماتها المتواصلة علي إحساسي بذاتي”.
العلاقات غير المتساوية الأطراف، أحد منهما يستغل الآخر تحت مُسمى الحب، والآخر يرى أن من واجبه التحمُّل باسم الحب أيضَا، هذه العلاقات تستنفذ الروح.
دونت بداية هذه المذكرات في مراهقة سوزان وحتى نضوجها نوعًأ ما، والذي كان منعكسًا وظاهرًا في تضارب أفكارها، ومشاعرها وحتى مثيليتها، ثم بداية نضجها واستيعابها للحياة كمراحل حياة أي شخص آخر ، بالرغم من كل شيء كان جليًا أنها كانت صريحة مع ذاتها وهو الأهم، صريحة تجاه مشاعرها وعثراتها وخيباتها وحتي عيوبها.
لقد قرأ هذه المذكرات ابنها ونقّحها للنشر، وبعيدَا عن هذا، مجرد التفكير في أن يقرأنا الآخر، أن يرى عُرينا، عندما يقروأوا الوجه الآخر لنا الذي لا يعرفوه، ما كتبناه عنهم، أخطاءنا التي لا يعرفها أحد، هل تتغير فكرتهم عنَّا؟ هل تسقط وجوهنا الجيدة ولا يعودوا يرونا بذات الصورة؟
تقول:
“ما معنى أن تكون شابًا في سنوات وتستيقظ فجأة علي كرب الحياة وحاجاتها المًلحة؟”.بداية استيعاب الحياة، الحياة ليست كما نراها في طفولتنا، الألعاب لم تعد مُلهية وكذب الكبار علينا انكشف بدون سابق إنذار.
تقول: “عاطفيًا كنت أرغب في البقاء، عقليًا كنت أرغب في الرحيل، كما هو الحال دائمًا كنت أبدو مستمتعة بمعاقبة نفسي”.
لماذا لا يتفق العقل والقلب؟ لماذا هم دائمي الصراع؟ لماذا لا يكون الأمر أقل صعوبة فتبدو الحياة أقل بؤسًا مما هي عليه – إنما هي الحياة وإنما هما اللذان لا يتفقا أبدًا.
تقول: “الأمر مختلف تماماً يبدو أن المسألة لم تكن أبدًا العثور علي محيط مناسب أكثر بل العثور على نفسي”.
نحن نعتقد- خطأ – أن وصولنا لمكان \ شيء \ شخص هو الحل أو هو ما نحتاج فعلًا، نعتقد أن هذا ما ينقصنا وبوجوده ستصير الأمور أفضل، ثم عندما نصل نكشتف أن الأمر لم يكن كذلك وأن شُبه علينا فقط وأن هذا ليس ما نحتاج فعلًا وإنما جلَّ ما نحتاجه هو أن نتواصل مع نفسنا ونعثر على تصالحنا مع ذواتنا.
تقول: “لا شيء يمنعني من أن أكون كاتبة عدا الكسل، كاتبة جيدة”.أحيانًا ما نكون نحن العقبة بيننا وبين ما نريد، كم من مرةٍ رغبنا بشيء، رغبنا أن نكون أفضل لكن شيء بيننا، شيء داخلنا حال بيننا وبين الوصول، أسبابًا غير مُقنعة فقط تُلقي خطوة البداية للغد والغد تلقيها لغده.
تقول: “كم هي عدد المرات التي نشتكي فيها من الشيء نفسه”.
نشتكي لأن هناك خللًا ما، عطب ما، أمر مزعج ومؤلم، نشتكي لأننا لا نستطيع أن نصمت أكثر، لكن ماذا لو اشتكينا ولم يحدث تغيير؟حسنًا، ماذا لو كانت شكوانا بالأساس من أنفسنا؟ نشتكي منا لنا؟ماذا لو لم يتغير شيء؟
نحن لا نستطيع أن نتخلص من أنفسنا، في الحقيقة لا أحد يتخلص من نفسه.
تقول: لأن الحاضر هو إحباط، فالماضي هو أكثر واقعية”.
لا ندري إلى أين قد تسوقنا الأقدار، نسير ولدينا أمل بالحياة، آمال معلقة أنها – قد – تحدث يومًا ما، خيبات نخشى الوقوع فيها، خيالات لا تدل على الطريق فقط تجعله أكثر تشويشًا، الماضي بكل ما قد يحمله من سوء هو أكثر واقعية لأنه حدث – بالفعل.
“كيف يعرف المرء مشاعره الخاصة”.
في أوجِ اضطرابنا، الحياة التي صفعتنا، الشخص الذي كنا نحبه كان مخادعًا، تشابهت علينا الطرقات وانقطعت، نفقد ثقتنا في ما حولنا، في حواسنا، في استقبالنا للأشياء، كيف يمكننا بعد ذلك أن نثق في مشاعرنا ؟ كيف يمكننا أن نثق فيما نشعر به – بعد كل ذلك.
في عام 1961 أي في أواخر عشرينياتها تقول:
“الخوف أن تصبح عجوزًا يعني الإدراك بأنك لا تعيش الآن الحياة التي تتمناها وهذا ما يُعادل إحساسًا بإساءة استعمال الحاضر”.
الوقت ينفذ، بثينة العيسى تقول: “الزمن هو العدو”.. لو كان بوسعنا فقط أن نصل في الوقت المناسب، نخاف من مرور الوقت لأننا لم نصل لما نريد أو لا نعرف ما نريد، لو كان بوسع الوقت أن يتوقف لأجلنا قليلًا ريثما نصل؟
تقول:
“لم أكل طفلة أمي، كنت تابعها ضحيت بطفولتي، بأمانتي كي أرضيها”.
هناك مقولة تقول “حياة البعض أحياناً تحدد من خلال طفولتهم”.. ما نحن إلا نتاج الماضي بكل ما يحمله، وكل ما مررنا به، الماضي هو الخريطة التي سرنا بها لنصل للنقطة التي نحن بها – الآن.
لا يمكنك أن تلوم شخص لما آل عليه، لا يمكنك مالم تكن مُلمًا بما حدث في ماضيه وهل كان فاعلُا أم مفعولُا بِه.
“يجب أن أغير حياتي كي أعيشها بدلاً من أنتظرها وهي تمضي”.
لا يتوجب علينا أن نعتاد الحياة هكذا وحسب، أن تصير عادة بدلًا من أن تكون مغامرة نستمتع بأيامها، نستمتع بفعل ما نريد لا ما يتوجب \ أو ما نرغم على فعله، لا نسمح لها أن تغيرنا ألا نسير وفق مبادئها بل وفق ما نريد.