عن الذي كانت له أسماء كثيرة ، ولم يكن له اسم.
الذي كان يتحدث فقط في قلبه.
لا أذكر متى كان أول لقاءٍ جمعني بِه، هو الذي لم أره مُطلقًا ولم يجمعنا مكان، لكني التقيْته كثيرًا بين أحرفه، والتقيْتُ بي أيضًا هُناك، والتقيتهم جميعًا، وإن لم يكونوا حاضرين.
عن القائل:
“لم يكن له اسم. سمَّاه بعضهم “منحرفًا” لأن لا طريق له، وسمَّاه بعضهم “هابًّا” لأن لا مقعد له، وسمَّاه بعضهم “غبارًا” لأنَّ كلَّ شظيَّة منه في مكان. كانت له أسماء كثيرة استحال جمعها في اسم، كانت له أسماء كثيرة، ولم يكن له اسم”.
عن وديع سعاده:
لن أتطرق إلى سيرته الذاتية، يُمكن قراءتها في أيِ مكان، لكني سأتحدث عنه بكيْفيةٍ أخرى، كيْفما قرأته وكيفما كَتبِني، وكَتبنا جميعًا.
الذي أسميْتُه الغريب والقريب، والبعيد، والعابر في ثنايا الروح دون أن يخدشها، والتَّارك لأثرهِ أينما رحل.
العابرُ سريعًا، والعابر على مهلٍ..
ما أدركته عند أولِ لقاءٍ بيْننا، أنه ليس كِسواه.
فالذي قال:
لم يكن هو السيّد، لم يكن هو المصطفى. كان المرتجفَ مثلهم في الريح. وبالكاد خرج منه صوت: “ما جئتُ لأُكمل ولا جئتُ لأنقض، بل أنا النقصان والأنقاض والنقيض”. وضيَّع صوته، ولم يبحث عنه، ولا بحث عنه أحد.
الذي لم يكن سيّدًا، وبلا اسم ولا صوت، كان يتحدَّث فقط في قلبه.
ثمة رجلٌ كتبنا جميعًا دون أن يقرأ أحدٌ منا، ولم يقرأه أحد.
ثمة حروف كُتِبت لم يُكْتب مِثلها من قبل، ثمة كلمات تنبضُ بالحياةِ.
وديع سعاده
كان لزامًا عليّ أن أكتُبَ عنه، هذا الشاعر الذي لم يحظ بشهرةٍ تليق بكتاباتهِ، الشاعر الذي لم يتسنَّ لي أن أقابله كي أشكره على فيضِ الحروف الذي ينْتابُني بعد أن أقرأ له.
وديع سعادة – دون غيره– من أستطيع أن أقرأ له نفس العمل أكثر من مرة؛ لأن مرةً واحدةً لا تكفي، ولأن أكثر من مرةٍ لا تجعلُني أمَلْ.
“وديع سعاده”
العابر كطيفٍ، كنمسةٍ أهداها لي القدر، وديع الذي يجعلك ترفع سقف كِفايَتك في الشعر فلا تَعد تقبل بأقلِ من ذلك.
لمَ لا يقرأ الناس لوديع سعاده؟.
يقول وديع في سعادة في ديوانه: من أخذ النظرة التي تركتها على الباب:
“الكثير من الأخطاء في الإشارات والأسماء
على الطريق
الأسهم المشيرة إلى أمكنة
توصل إلى مكنة أخرى”.
“خطوة واحدة
واحدة فقط
كان عليه أن يمشيها
كي يرى”.
وقال في “بسبب غيمة على الأرجح”:
“هؤلاء الذينَ اعتقدتُ أنَّهُمْ يُحِبُّونني لم يفعلوا شيئًا من أجلي. هؤلاءِ الذينَ غادروني من دونَ أن يطلبوا دمعةً أو كلمةَ وداع. الَّذين انسحبوا بخفَّةٍ من حياتي، كأنَّ ورقةً صغيرةً سقطت في الماء”.
وفي ديوان “قل للعابر أن يعود”:
“وإنْ أردتَ رفيقًا، فأيُّ رفيق أعزُّ من وحدتك؟”.
“ابحثْ في التراب قد ترى أصدقاء، وقد تتعرًّف إلى ناسٍ لا تعرفهم”.
“انبشْ التراب الذي في قلبك، ستجد كثيرين مدفونين هناك، ينتظرون أن يصل مِعْولك إليهم كي يحيوا”.
وديع، الذي اختصر أزمنةً وأحداثًا بحروفهِ، فهو الذي يعرفك تمام المعرفة، ويجهلك في حقيقةِ الأمر، عبَّر عن حيواتِنا جميعًا فأحسن وأوجز فصارَ بالنسبةِ لي لا يُشبِهُ أحدًا.
يقولُ في “غُبار” عن جمالِ العابر:
“العابرون سريعًا جميلون. لا يتركون ثقلَ ظلّ. ربما غبارًا قليلاً، سرعان ما يختفي.
الأكثر جمالاً بيننا، المتخلّي عن حضوره. التارك فسحةً نظيفة بشغور مقعده. جمالاً في الهواء بغياب صوته. صفاءً في التراب بمساحته غير المزروعة. الأكثر جمالاً بيننا: الغائب.
قاطعُ المكان وقاطع الوقت بخفَّةٍ لا تترك للمكان أن يسبيه ولا للوقت ان يذرّيه. مُذَرٍّ نفسه في الهبوب السريع غير تارك تبنًا لبيدره ولا قمحًا لحقل سواه. المنسحب من شرط المشي للوصول. المنسحب من الوصول”.
لم لا تقرأ لوديع سعادة؟