العمل السابع والرواية السادسة للكاتبة الكويتية بُثينة العيسى، والذي صدر في 2013 عن الدار العربية للعلوم.
تستهلها في المقدمةِ قائلة:
“المشكلة هي أنني كبرتُ ولم أنسَ،
كبرتُ ونسيتُ أن أنسى”.
*
الرواية تدور حول”فاطمة”التي زجت بها الأحداث لتعيش تحت رعاية أخاها غير الشقيق بعد حادث موت والديها، الأمر الذي جعل حياتها تنقلب رأسًا على عقب.
من هُنا بدأت مأساتها، من ذاك السِرداب العَفِن بمشغل التكييف الذي يئن دائمًا – مثلها – تمامًا.
من النقيض للنقيض، فارق الستة عشرة عامًا مكَّنه من أن يضمها إلى حضانته مع أولاده، لا كأخٍ أكبر بل كأبٍ رأى في نفسهِ المُنقذ لها من فساد تربيتها كما ادَّعى.
محاولاتها العابثة للإنخراط مع عائلته لم تجد إلا صدًا وسخريةً. فتوالت عليها الانكسارات، فصارت نظرات عيْنيها ما تبرحُ الأرض.
تبتسم؟
لا تدري هل تبتسم خيبةً أم وجعًا، لكنها لا تملك إلا الابتسام حتى لا يروا انكساراتها إثر سخريتهم منها. كأن الأمر لا يعني لها شيئًا.
*
الصَّمت.
ما كان إلا طريقًا سلكته كارِهةً حتى اعتادت عليه، وصار شيئًا طبيعيًا حتى لتكاد تنسى كيف كان الكلام؟ وما هو الحَكيْ؟
تبتلع أوجعاها وتصمت، تبتلع أحاديثهم السامة وتصمت، تبتلع تلويث أخيها لكل ما تحبه ،وتصمت!
تبتلع خيباتها.
وتنام!
*
الهَرب.
الهرب من المشكلات لا يحُلها، ولا يجعل وطأتها تقل، الهروب الذي تكرر، والذي كانت ترى أنه – قد – يحل أزمتها، قد يُحدث شيئًا، فشلت فيه مِرارًا إلى أن نفذت هربًا خلَّصها من ذاك السِجن.
*
فاطمة تُقرر أن تموت.
لأن الموت راحةً – أحيانًا – ففشلها في الهرب جعلها تقرر أن تموت وهي على – قيد – الحياة، تبتاعُ زهورًا، تختار بُقعة ما، تقول هُنا دُفنت تعود للمنزل وتقول في نفسها: الآن أنا ميْتة لن يؤلمني شيء منهم مرَّة أخرى.
حضَّرت لنفسها موتات كثيرة، في كلِ مرَّة كان جزءًا منها يُدفن دون أن تفقد أن جزءًا من جسدها. كان جزءًا من روحها، جزءًا مما تبقى من مشاعرها وأحلامها.
*
الدِّين.
ترغيب لا ترهيب، والضرب بالسياطِ والنعل ليس ترغيبًا أبدًا، وتفسير الدين حسب الهوى ليس فِقهًا ولا رجاحةٍ عقل، وحرمانٍ طفلةٍ من دُماها باسم الدين هو ضيق أفق وبصيرة، والقراءة والكتابة واللغاتِ الأخرى ليست كُفرًا، وتضيق الحال على طفلةٍ والتفرقة في معاملتها، بل وتثبيط همتها في كل شيء ليس دينًا بالتأكيد.
*
الفِرار.
إنهم يفرَّون هربًا من الكاتبات، بل، أنهم يتبرأون منهن، من وصمة العار التي قد تلحق بهم إن اكتشف أمرهن. سيركضون محاولين ستر عورتهم، يصفعونهن، يضربونهن بالنعالِ، يحبسونهن في سراديب لا يرين فيها أحدًا ولا أحد يراهن، يعزلونهُن عن العالم حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا ويتزوجن فيتخلصون من همِّهِن.
*
شاعرةٌ في السرِ.
لأن الشعر جُرمٌ يجبُ أن يبقي سرًا مُعلنًا لها وحدها، كانت تخشى على قصائدها من براثن أخيها، تخبئها في علبٍ بداخلٍ علبٍ، تخفيها تحت سريرها. كتبت قصيدها الأولى على قاع علبة محارم، تقوم بتجليد كُتبها بتجليد آخر بعناوين أخرى حتى لا يراها أخوها.
تقول بُثينة على لسانِ فاطمة:
“تتسامحون مع القُبح، مع ضرب الأطفال، واغتصاب النساء مع الشتم واللعن، مع العنف المنزلي، مع العنصرية، تتسامحون مع إسرائيل وأمريكا مع طائفيتكم مع فساد الحكومة، مع زواج القاصرات مع كل شيء، تتسامحون مع هُراء العالم كله، لكنكم لا تتسامحون مع قصيدة”.
*
صقر
هل كان صقرًا؟
هل ينعتُ الصقر بالدناءةِ؟
كان فظًا، غليظ القلب، فما برحت حتى انفضّت من حوْلِهِ.
كان يدس براثنه فيها كلما سنحت له الفرصة، كان يقتلها كلما استطاع، كان يخذلها ويُضعِفها، ما كان سندًا – أبدًا – وما كان وليًا أبدًا وما رعى أمانته حق رعايتها.
جعل منها أضحوكة، رمزًا للفشلِ والضياع، هدم كل ما فيها، اقتلع كل زهورها فذبُلت.
*
فارس.
هل كان ملاذًا؟
زوجها، الذي ظنت لبُرهةٍ أنها تخلَّصت من صقر على يديهِ، لتجد بعد ذلك نسخة أخرى عنه مع اختلافِ التفاصيل. فقط!
هل أحبها؟
ربَّما، حتى وإن لم يتفقا، حتى وإن يفهمها في كثيرٍ من الأحيان، حتى لو بدت له أنها من عالمٍ آخر غير عالمهِ.
لم يكن فظًا كصقر لم يضربها ولم يُهنها كما الآخر، لكن هذا لا يمحي فكرة أنه كان قفصَا آخر وسجنًا آخر. كان لازمًا عليها أن تتخلص منه وإن كان بعد حين.
*
حياة.
اسم على مُسمى، صديقة طفولتها، والتي كانت تشعر بأمومتها أحيانًا تجاهها، التي كانت تدعمها دومًا وتساندها وتعنِّفها إن لزم الأمر. الصديقة الوفية التي بعدما طال غياب صديقتها حاولت باستماتةٍ أن تصل إليها، وعندما عادت.. عادت.
بل، ظلت معها، تُساندها، ظلت كتفًا يمكن الاستناد إليه.
حياة، كانت حياة بالفعل.
*
عصام.
الشعرُ بالشعرِ، والبادي أجمل.
نحنُ نميل تلقائيًا لمن أوجاعهم تُشبِهُنا، لمن فراغاتهِم بحجم فراغاتنا، نستطيع أن نُميَّزهم من بين الجميع، لن نخطأهم أبدًا.
نحن قريبين منهم دون أن نتحادث. هناك الكثير من الخيباتِ التي نتشاركها دون حتى الهمس. هناك الكثير من الحيوات التي تجمعنُا وإن لم نحيها معًا، عصام. الشاعر ذو الجسد النحيل، الذي قد لا يبدو جذابًا، الوحيد إلا من وِحدته، تشبه خاصتها، شبييهُها، اللذان تآلفا معًا دون أي حديث.
جمَّعهما الشعر وقلَّص المسافات، جعل الأوجاع تلتحمُ في بعضها، جعل منهما اثنين بروحٍ واحدةٍ.
أحبَّها، وأحبَّته، ورُدَّ لها بعضٌ من روحها على يديهِ.
السٍّر يكمنُ في الشعر. وحده جمَّع بينهما، ووحده أعادهما إلى بعضهما.
*
ما الجديد هُنا؟
الشِّعر.
تقول بُثينة:
“إن الكلمة مثلنا، متعبة من ماضيها، وهي – مثلنا – تتحرر منه بالشعر”
وتقول في نهاية الرواية:
“الحكاية المُعتادة، رجل وامرأة وكثير من الذاكرة وقليل من النسيان، باستثناء أن البطل في الحكاية ليس الرجل ولا المرأة ولا الذاكرة ولا النسيان، إنه الشعر”.
روح الشعر أضافت إختلافًا ورقيًا إلى الرواية، أضافت تميُزًا.
تقول بُثينة:
“قلبي ثقب أسود
يمتص كل شيء.
أنا فوهة العدم القاهرة
أنا قيامة العالم”
*
لغة بُثينة ثرية جدًا، ومُحفزة للكتابة، أعتقدُ أنها وُفِقت جدًا في روايتها، بل حتى في اختيار أسماء أبطالها التى كان لكل منها مدلول آخر زاد من ترابُطها.