ربيع جابر روائي لبناني ـ ولد في عام 1972
صدرت رواية الاعترافات في عام 2008 عن المركز الثقافي العربي، ودار الآداب للنشر والتوزيع
هي رواية الحرب، والحرب الأخرى، أو نوع آخر من أنواع الحرب، تصوّر جزءًا بسيطًا من الحرب الأهلية التي كانت في لبنان والتي استمرت لمدة 15 عامًا.
يروي وينقل ربيع صورة عمَّا حدث آنذاك، ولو أنني اعتقدت أن الحرب الأخرى، والنوع الآخر من الحرب هو ما كان واضحًا أكثر في الرواية، تلك الحروب الداخلية العنيفة والتي بلا شك تأتي متأثرة بالحروب الخارجية بصورة أو بأخرى، بل أنها أحيانًا ما قد تكون بؤرة ما يحدث داخلنا.
عندما يروي ربيع على لسان بطل الرواية عن أخيه أو من اعتقد أنه أخوه الذي قُتل في الحربِ وكان يُشبِهُه جدًا، ومراقبته لاختلاف ملامح إخوته كلما تأملوا وجهه، ما بين الغضب والكره والحب والحيرة، الخوف والغضب.
وأتساءل عن أولئك الذين يُحدَّقون بشكلٍ مثير للريبة في وجوه المارة، لربما عُذرهم معهم وذكَّرهم وجه أحد، بأحد، دون أن ندري.
الصدمة حين تلتقي بوجهٍ آلمك في وجهٍ آخر حتى لتحسبه هو، وجه ربما فارق الحياة، غادر، مسافر أو مريض، لربما صار غريبًا بعد أن اقترب.
فتتبدل أحوالك كلها.
أفكر، أن للتحديق أحيانًا، وجوهًا أخرى، لا أذكر تحديدًا إن كُنتُ شاهدتُ أحدًا ما لا أعرفه يحدق بي غضبًا من دون أن أفعل شيئًا، لكني أعتقد أن الأمر يحتاج التركيز في المرات القادمة.
الحرب تنقضي، لا يبقى سوى الذكرى، وهي حرب أخرى.
يُكرر “الذكريات تخدع”.
البيوت، الأثاث، وكراسي الطرق، كلها أشياء قابلة للاندثار والتغيير، يذهب الأثر وتبقى الذكرى.
يقول:
“يمضي الوقت، والواحد يتغير، والأشياء تصير جزءًا من طبيعة الأشياء، لا تفكر وهي تمسح زجاج هذه الصورة فيما تفعله”.
الأشياء تصير من طبيعية الأشياء، القدم المفقودة، الكرسي المكسور، الغائبون، الموتى، يصيرون يومًا بعد يوم من طبيعية الأشياء، بعد أن كانوا جزءًا مفقودًا، أخته في يوم ما كانت تبكي وهي تمسح زجاج الصورة، الآن، تمسحه ولا يبدو أنها متأثرة بأي شيء، تمسح الزجاج كروتين عادي تقوم به كل يوم دون أي تأثر.
إنه الوقت، لا شيء يبقى كما هو، التأقلم على الحزنِ والخسارات، نحن لا ننسى، لكن يختلف تأثير الأشياء علينا كلما مرَّ الوقت على الصدمةِ الأولى.
مأساة أن تعرف/تكتشف الوجه الآخر/الصادم، لشخص مقرب أفضل؟ أم ألا تعرف وتظل مخدوعًا؟ وتظل الصورة كاملة؟
سؤال تبادر إلى ذهني وإيليا يروي لأخيه أن أباهم له يد في عمليات القتل التي تتم، هو الذي ظل أعوامًا يسأل ولا يحصد أية إجابة، لماذا يخبره الآن؟
الصوَّر المتكسَّرة لا تعود كما السابق، حتى لو ألصقت أجزاءها معًا مرة أخرى، تبهت التفاصيل، تهبت ولا تعود كما السابق – أبدًا.
الآن وقد أتته الأجوبة، هل فقد رغبته بها؟
هل راودته نفسه “ياليتني لم أسأل”؟
هل قال بخُلده: “يا ليْتني متُ قبل هذا”؟
يقول: “والواحد وهو صغير لا يفكر في كل هذه الأشياء”.
يا ليتني لم أكبر، هذه رواية الحقائق التي نحاول أن نتناساها، أننا كبرنا، في لحظة ما عندما تكبر تكتشف أن هناك أمورًا كثيرًا صرت تراها بصورةٍ مختلفة، لا تدري هل كانت كذلك من الأساس؟ أم أنها تغيَّرت، لكن ربما الأكيد أنك وأنت طفل لم تكن لتفكر في هذه الأشياء.
يقول: “كان بلا وجه”.
التعبير الأنسب لتلقي الموت، كيف يصير وجه من تلقى للتو نبأ الموت؟ من مات له حبيب؟
الإجابة الأنسب؟ بلا وجه.
ربما لأن الراحل أخذ كل شيء معه، حتى ملامح الوجه تختفي، تزول، تهرب من الفجيعة.
يقول: ” أعرف أن الناس هكذا، أعرف أن كل واحد يظن حياته فريدة، ولا تشبه حياة أخرى، وأعرف أن كل حياة ثمينة وتختلف تمامًا عن كل حياة أخرى، أعرف كل هذا”.
لأن هذا حقيقي جدًا، بداخل كلٍ منا هذا الشخص أو هذا الاعتقاد، أن حالته هي المميزة، أن لا أحد يحدث له هذا ولا يشعر كما يشعر هو، أن قصتي هي المميزة عن قصصهم جميعًا، وهذا طبيعي وحق للجميع على ما أعتقد.
يقول: “الفصول تدور لكن أنا خارج الدورة”.
فقدان الإحساس بالزمن، التوقف التام، ممارسة اللاشيء.
نوع من الغبار أحاطه، وكما قال أنه صار يسير في الضبابِ منذ أن ماتت والدته، أن يكون خارج الدورة هو فصل من فصول الحياة، لا بد وأن تمر به وإن اختلفت الأسباب.
الحروب، ليست ما تقع خارجًا وتحدث خرابًا بالبلاد فقط، بعض الحروب لا تخرج عنك ولا تحدث خرابًا إلا بك، تكون ساحة المعركة هي أنت، تحدث ما بينك وبينك، لا خاسر إلاك، لا فائر إلاك، ولا مُنجد لك إلاك، أيضًا.
يقول: “لا أعرف إذا كنت تفهم ما أقصد، لا أعرف إذا كنتُ قادرًا على التعبير بوضوح”.
الكلام العالق بين شفاهِنا، النظرات المعلقة بين أعيننا، الكلمات التي تخذلنا، أحيانًا كثيرة، فتفر هربًا، وإن خرجت صارت بلا معنى.
ما الذي قد يجعلنا لا نحسن التعبير؟ أو لا نستطيع أن نشرح للآخر بصورة جيدة ما نشعر به؟
لا تستطيع التعبير بوضوح ربما لأن هناك غيمةً ما تقف أمامك، لا أنت ترى من خلالها أحدًا ولا يراك أحد.
يقول أيضًا: “أرى أشياءً لم أكن عندئذ أراها، مع أنها كانت أمامي”.
اللوحة المعلقة تلك، لها ما يُقارب السنة، الآن فقط لاحظت بها شيئًا لم أره من قبل، العيب بماذا الآن؟
هذه الأشياء تحدث، كثيرًا.
الأشياء التي لم تكن تراها، نظن أننا نرى لكننا لا نفعل، بعد مدة تنقضي الأشياء، وتبدأ الصور في الظهور، التفاصيل الآن أكثر وضوحًا وقوة، وأنت أكثر انتباهًا لها.
المهم أنك صِرت ترى، الآن.
لقد عانى مارون مع ذكرياته المفقودة والتالفة، آلام الماضي، الحرب، الموت، آلام الوحدة بطريقةٍ ما، لكنه في النهايةً شعر بالسعادة بعد أن تناول كعكعة احتفالًا بعيد مولده الذي يدرك أنه ليس التاريخ الحقيقي، إلا أنه قرر ذلك، ورغم أنه بمفرده تمامًا إلا أنه شعر بالسعادة.
هل أراد ربيع هنا أن يرسل رسالة مضمونها أنه لا يهم أن تكون بمفردك، كعكعة يمكنها أن تبدّل من حالتك النفسية؟
أم أراد أن يقول أن الأمور السيئة تنقضي، وسيأتي اليوم الذي ستستطيع أن تستمتع بالتفاصيل الصغيرة؟
لربما أراد أن يقول، باعتبار أن مارون لم يفكر أبدًا في الاحتفال من قبل، وأنه فعلها أخيرًا، أن بعض الأشياء تكون قاب قوسين أو أدنى منا لكننا نأبى أن نراها؟
هل السعادة تكمن في التفاصيل أحيانًا؟
أم أنه يجب الوصول لنقطة ما من التصالح من الماضي وما لا يمكننا تغييره ولا الوصول إليه؟ نقطة من عندها نبدأ الحياة وكأن شيئًا لم يكن؟