كيف يمكننا أن نكتب عمَّا كُتب عنه مِرارًا دون أن يبدو ذلك مُبتذلاً / مُكررًا ؟
هذا ما نجح فيه طلال في هذه الرواية، وما أحاول الوصول إليه في هذه المقالة .
الكثير من المراجعات، والمقالات أيضًا، تتحدث عن الرواية وتمدحها، كل شيء كان ينم على أنني أمام عملٍ مختلفٍ، لا أنكر أنه كانت تُساروني بعض الشكوك حيال إن كانت ستروقني أم لا ، كثرة المراجعات والمقالات عن عملٍ ما لا تجعله بالضرورة يُعجبك ، هذه الاختلافات في التذوق الأدبي تحدث كثيرًا حتى مع أكبر الأعمال الأدبية .
بعض الأعمال تكتسب شهرتها بسبب كاتبها فقط لا محتواها، البعض العكس، تساءلت هل السبب هو نجيب؟ أم طلال؟
لكن الأمركان مُختلفًا هُنا ..
.فبالنسبةِ لطلال هذا هو العمل الثالث الذي أقرأه له ولا أذكر أن أحدًا من العملين السابقين قد لفتا نظري لهذا الحد ، إلا أن هذه الرواية جعلت مني من أكثر المنتظرين لأعماله القادمة بل والرغبة في قراءة ما فاتني .
لا أدري إن كان اختياره لنجيب سرور محض صدفة أو حبًا للشاعر الراحل ، أو عن ترتيب مسبق ما ، إلا أن كل ما بوسعي قوله وباعتراف تام أنه كان موفقًا جدًا في الاختيار ، بل كان ذكيًا .
هناك جهد خاص مبذول في العمل يبدو واضحًا جدًا ، الربط بين الأحداث ، طريقة العرض، فقرات الكتيبة الخرساء ،أما عن كلمة السر بالنسبةِ لي في هذا العمل هو السرد .
طريقة السرد مميزة، ربما يكون الأسلوب بسيطًا، ليس باذخًا، لا جمل أو تشبيهات خلابة ، إلا أن بساطته تلك جعلته سلسًا ، كلمة السر الأخرى هي نوع ما من الغموض
أو التساؤلات لأكون أكثر دقةً ، والتي من وجهة نظري تم استغلالها بشكل جيد جدًا .
هي أحد الأعمال التي لا تشعر لا بالوقتِ لا بنفسك وأنت معها ، شيء له عالم خاص ، لكل عملٍ أدبي عالم خاص الذكاء يكمُن في الطريقة التي يجعلك بها الكاتب تدخل إلى عالمه الخاص فتتأثر معه بكل ما تقرأه .
لقد أقحم نفسه بالرواية مع اختلاف تفاصيل بسيطة ، اختياره لهذه الفترة الحرجة من حياة نجيب سرور لا غيرها ، ربما كان تأثيرًا ما من كونه طبيبًا نفسيًا إلا أن ذلك تم توظيفه بشكل جيد ، لم يطغي الجانب ” الطب ” النفسي ” بتعقيدات طبية ” كان من الممكن إقحامها وهذا ذكاء آخر، اختيار ما يجب إضافته وما يمكن حذفه.
كان من الممكن أن يطرح “طلال فيصل” في الرواية رأيًا واحدًا نهائيًا / زاوية واحدة للأمور ، لكنه آثر أن يعرض الصورة كاملةً أو من زوايا مختلفة، تلك الزوايا التي طُرحت وطُرح معها تساؤلات، التي هي وبعيدًا عن أهمية السرد في ذاته عن شخصية نجيب ، كانت من الأساسيات التي لولاها ما أخذت الرواية هذا الطابع ، عن تلك الاختلافات بين الناس ، الاختلافات الطبيعية جدًا والتي لا تنتهي من الوجود، أن يرى كل شخص الصورة مختلفة عن الآخر، إنها صور متعددة من الحياة مجتمعة في حياة شخصِ واحد .
التساؤلات لا تتوقف ، هل هذا حدث بالفعل ؟ لكن المريض قد لا يعرف أنه مريض ؟
هل يمكن لمريض نفسي أن يكون مُبدعًا ؟
هل يمكن لمن فقد عقله أن يصير شاعرًا كاتبًا مسرحيًا ؟ لكن الشاعر وإن فقد عقله لم يفقد قلبه ..
بل كيف يكون فاقدًا عقله ويمتلك رؤية ما أو تحليلًا ما ، أو اقتناصاً للأحداث من بين السطور ؟ أن يكون واعيًا لما يحدث حوله ...
الرؤيا والرؤيا الأخرى ، إن الإنسان أحياناً ما يظن أن كل ما يلم به ما هو إلا بسبب الآخرين ، الإنسان دائمًا ما يميل لأن يلعب دور الضحية – الدور الأسهل على الإطلاق، فهل كان نجيب ضحية الآخرين ؟ هل كان ضحية نفسه ؟ هل كان ضحية من الأساس ؟ ولماذا تبدو أحيانًا الكلمات أكثر عنفًا من الواقع ؟ وإن حدث ذلك فلماذا ؟.
أما عن نجيب وتعليقًا عمَّا ذُكِر ..
اعتقد أنه كان هو مأساة نفسه ، كان يعيش في عالمه الخاص ، المختلفون غالبًا ما يواجهون مشاكل مع الآخرين خاصة الأكثر صدقًا وصراحةً منهم ..
هل بدت تصرفاته مُريبة أحياناً ؟ ” مشهد المشفى مثلاً وهو يضع أصبعه في فمه ” أعتقد أنه كان قد ألفَ المشهد ، وأراد أن يُكمله لنهايته وكأنه ودَّ أن يقول لهم هل تظنون أني مجنون؟ حسناً سأريكم الجنون بحق ..
لكنه وكأي رجل بروحِ طفلٍ لا يدري عواقب ما يفعل ..
لقد كان خفيف الظل ، جريئًا ، ساخرًا من كل شيء ، كانت مشكلته أنه كان حقيقيًا دون أي زيف .
” إني أرى ما لا ترون “
مأساة أن تعرف أكثر ، أن تقرأ أكثر ، أن تلاحظ كل شيء وأبسط شيء ، أن تقترب أكثر من الصورة البعيدة لتراها بكامل عيوبها التي لم تتراءى لك من بعيد ، أن تُرفع الستائر عن المستور ..
لكن كيف سيصدق الآخرون ولم يروا ما رأيت ؟.
إن أكثر الصدمات إيلامًا وتأثيرًاالتي تكون ممن هم أقرب ، أو تحسبهم كذلك ، أن تتحطم الصور لمن هم ” ذو شأن ” فيبدو كل شيء صغيرًا جدًا .
ربما السبب في ذلك هي تلك النظرة ذات الصورة الملائكية التي لا تتناسب مع آدمية الواقع والأشخاص .
لقد عانى الكثير كثيرًا ربمالأنه كان رقيقًا ، ربما لسمو معانيه ، لإخلاصه ، لاختلافه ،لقد اختزل فعل الخيانة بنظرةٍ لأنه كان يرى ما لا يُرى ، ربما لأن من يفعل ذلك قد يفعل الفِعل الأكبر ،إنه أحد أولائك الذين يهتمون بالتفاصيل التصرفات البسيطة ومنها يدركون الكثير ، ربما نوع من الاستنباط مثلًا ، كان تفكيره معقدًا نوعًا ما لكن لا يستحيل فِهمه على كلٍ .
الأشخاص الأكثر معاناة هم الأكثر حساسية ، كان شديد الحساسية وواقعه مؤلم بكافة تفاصيله والأمرين لا يجتمعا .
لقد كتبت عبلة الرويني عن أمل دنقل كتابة جعلتني أحبُّه ، وكت بَطلال عن نجيب كتابةً جعلتني أحبُّه أنا التي – لم تقرأ- لنجيب سرور أي عمل ، إلا أن طلال كان موفقًا، فإن عبلة الرويني كانت زوجته وهذا يجعلها قريبة بدرجةٍ تمكنها من فعل ذلك، نحن نكتب عمَّن نحب بحبٍ فينتقل الحب إلى القارئ ، نجح طلال في أن يبُّث حبًا في كتابته وهو الذي لم يلتق به أبدًا ربَّما لأنه كتبها بحبِ