الوحشة تعوي كما الذئب في أحشائي ، الوحدة أيضًا والحنين، احتجت أن اسمع صوتك لأشعر بالأمان ، لكنك كعادتك لم أجدك، وكعادتي كنت أحبك وأنا أوقن أنك نشيجي المتواصل فلا أجرؤ على نسيانك، أحبك، كمن لا تعرف سوى ذلك، وصرت من فرط ما أنت قريب أسترجع ملامحك فلا أراك إلا كاملًا ،كأنك دونت إلى حد أنك مشهد كل لحظة فأحفظك دون جهد استحضارك ، وأقول كم أنت حاضر لأرتجف من غفلة المعنى، وأقول ما أشد الغياب فأرتعش من فتنة الحضور ، هل كل هذا المعنى أنت وكل هذا النقيض ؟ ، ثم أقرر أنني سأنسى عادة الشغف بك، فلا استعيدك إلا بياضًا ولا أراني إلا شغوفة بحبر احتمالاتك، فأراك بحرًا بشاطئ قلقي أو غابة تغويني ظلالها أو مدينة تتسع لغربتي أو ملحًا فأجهش من هذا الغموض، هل بعد أيضًا ؟ بي اكتظاظ ما لا أذكر من سنوات الهاجس التميمة، بي التوجس المجبول بكوابيس التجربة، بي مباهاة الأنوثة بضعفها الجميل. بي السؤال عن مساءات تخلو منك وعن صباحات فقدانك، عن أصابع لا ترتعش بي، عن جسد يبتعد بذاكرته عني ، عن عينين تبحثان عن نوم آخر، بي كل هذه الهاوية ولا أجرؤ على نسيانك، كأنك شاسع فأمتلئ بك ثم تفيض عني أو كأنك الفراغ فلا أخرج من وهم جاذبيتك ،ثم أطلبك من جديد فأخشى أن أكون جديدة على الندم ، وأخشى أن لا تطل على نومي فلا أشفى ولا أجرؤ على نسيانك، ولا استطيع تذكر الأشياء بمعزل عنك، كأنك امتزجت بكل ما عرفته معك وبعدك ،فلم أعد أقدر أن أكون حيادية، ولم أعد إلا منحازة لكل ما اختبرته بك، ومن فرط قربك كلما قررت الهروب فاجأتني بكل اضطرابي ، فأرتعش وأتوجل وأرتبك وأنتبه وأكتشف كم أنت غائب وأكتشف كم أنا عاشقة وكم أنا ضعيفة وكم أنا طفلة، حتى إذا انتبهت اخترقني كل هذا الحزن الذي يراودني طويلًا، فألوذ بعطره كي أشمك، وبصدره كي أسمع نبضك، وألتجئ إلى شمسه كي أهرب من صقيع عنادك، ثم لا أقوى على حضوره الناصع هكذا فأعود وأطلبك من جديد، وإذ بك بعيد وصامت ومضطرب كما لو كنت زمنًا يبادل حزني بعقمه، فأنتبه وأبكي هذا الغياب طويًلا كشجرة مستوحشة، ثم أبكي هذا الغياب طويًلا كشتاء لا ينتهي ، هل عرفتك يومًا دون أن تكون شكًا والتباسًا وغموضًا؟ هل سأدهش لو عرفتك أكثر؟ أقصد لو عرفتك كمثل وجع لم أخاصمه يومًا أو كمثل وجد يرافقني كل لحظة كما لو أنه قريني؟ وكلما أمعنت في أسئلتي زاد غيابك في تعنته، فأنتبه وأدرك ثانية أنني لا أجرؤ على نسيانك كما لو اختبار يومي لحياتي، ثم أنتبه فأراك فعلًا هاجسي اليومي، فإن حضرت قليلًا أدركت كم أن الألم حصة أبدية، وأدركت أن الغبطة مجرد افتراض، ثم أعرف كم أنا مثقلة بماء تجربتي معك، كأنني لم أكن قبل أن اختبرك في جلدي، أو ربما كأنني أكتشف الدهشة للتو، فأنحاز إلى بياضي، فتدهشني إشارتك. ويدهشني برقك، وأمتلئ بلغتي معك، وأعلن كم طرية أنا بك وكم ندية!، ثم أعرف كيف تطوقني رائحة التفاصيل معك، فألتفت إلى الوسادة والسرير والغرفة والبيت والسلم والشارع والمقهى فلا أرى غير غيابك، ثم ألتفت إلى غيابك فإذا أنت رائحة استرجعها من الوسادة والسرير والغرفة والسلم والشارع والمقهى والمدينة، فأقلق من تفردك، وأقلق من أن تكون الاحتمال الأخير لاختباراتي، فارتجف من القلق، وارتجف من لذة الألم، ثم أنتبه إليْ، فلم أعد أراني إلا بما هو غيابك، حتى إذا حضرت كلك ذات يوم رأيت كم أنك الرائحة الأخرى لموتي .