مرة أخرى، كيف كانت البداية؟
كانت قوائم الأصدقاء غالبًا ما تحوي زملاء العمل أو الدراسة، والأقارب ذوي الدرجة الأولى أو الثانية حتى، ثم أصدقاء الأصدقاء الذين قابلناهم ولو مرة، ثم الذين لم نقابلهم حتى كان حينها عدد الأصدقاء محدودًا نوعًا ما، لكن من ثم أخذت القوائم تزدحم عند البعض على آخرها فلا يعود بإمكانهِ إضافة صديق جديد، وهذا الامتلاء مثلًا وصل إلى ما يُقارب خمسة آلاف صديق وهو رقم ليس بسيطًا أبدًا.
تصحو لتجد صفحتك مملوءة بأشخاص لا تعرفهم ولم ترهم من قبل وربما لا يوجد أي شيء مشترك بينكم، بل وعليك أن ترى تناقضاتهم دون أن يكون ذلك غريبًا، فيحدث أن تجد شخصًا يحب شيئًا ما ثم يتبعه آخر يكرهه تمامًا.
فيسبوك مثلًا يعطي خاصية أن تختار من الذي تشارك معه كل ما تنشره، سواء كانت الصور، أو مقاطع فيديو أو حتى عبارات مكتوبة، بل إنك تستطيع أن تحدد أشخاصًا بعينهم لا يمكنهم رؤية ما تنشره
كل هذا يكب في خصوصية الشخص وهذا كله جيد ومريح، لكنه وبطريقة سمح لأي أحد أن يرسل لأي أحد رسائل وإن لم يكن مضافًا لقائمته وهذا ما جعل الكثيرين يستاءون واعتبروه تخطيًا لخصوصيتهم بل وبابًا لكثير من الهراء.
بعد بداية ظهور خاصية «المتابعة» وازدياد عدد المتابعين لأشخاص ما، بدأت تتقلص هذه المساحة الشخصية، وكما قلت في المقال السابق
تقلصت المسافة مثلًا بين القارئ والكاتب، لكن الوضع لم يتوقف عند الحد المتعلق بالكتابة وحسب، سابقًا كانت الناس تميل لأن تعرف تفاصيل عن حياة ممثلهم المفضل أو مغنيهم المفضل، الأشخاص الذين يظهرون على التلفاز بشكل عام باعتبارهِ وسيلة الشهرة الأساسية والوحيدة بطريقة ما، لكن الآن صار هناك رغبات أيضًا في أن يعرفوا أكثر عن هذا الشخص الذين يتابعونه، إن كان الأمر عند هذا الحد فهذا جيد، لكنه لم يتوقف عند ذلك أبدًا.
فئة ترغب في أن تعرف أكثر مما يكون مسموحًا لها، أكثر مما يجب
وتعتقد أن هذا من حقها، وهو ليس كذلك، يتبعون وجهة نظر: أنت مشهور يجب علينا أن نعرف عنك كل شيء، ومن ثم التدخل في حياة الآخر أكثر مما يجب، «لماذا ذكرت والدك ولم تذكر والدتك؟» يتبعها لازمًا بناء أحكام، لقد قلت ذلك وهذا يعني أن لديك خلافات مع والدتك؟ فما الذي حدث؟
الأحكام تصدر بسهولةٍ تمامًا، يعتقدون أنهم يعرفونك جيدًا، فقط لأنهم يتابعون ما تقوم بنشره، لا أحد – إلا ما رحم ربي – يفكر أن هذا كله ليس إلا جزءًا بسيطًا، جزءًا قام الشخص باختياره لينشره – ليس أكثر -.
أنهم لم يروا وجهك في ذاتِ اللحظة التي تكتب بها شيئًا حزينًا، هل أنت حزين بالفعل؟ هل أنت سعيد بالفعل؟
يحبون من اللاشيء ويكرهون من اللاشيء
ينسون أحيانًا أن كلنا بشر، وأن من حقنا جميعًا أن يكون لنا خصوصية، وأن كون الشخص مشهورًا نوعًا ما لا يجعله بالضرورة مُلزمًا بإضافة كل من يرسل له طلب صداقة، وفي حالة أنه لم يفعل، فأنت مغرور – وعلامَ تغتر – أنت لا شيء!
تنقلب الصورة سريعًا، من مؤيد ومتابع، لأن تتصف بالغرور فقط لأجل طلب صداقة!
نحن في عصر السرعة تمامًا، هذه تعتبر الجملة الأساسية لكل شيء الآن، لم يتوقف الأمر عند ذلك، أخذت السوشيال ميديا تتوغل في حياتنا اليومية بل ويكون لها تأثير كبير علينا وعلى علاقاتنا أيضًا، فتجد
خلافات تحدث لاختلافات في وجهات النظر، اختلافات سياسية، اختلافات في الفريق الذي تشجعه، البعض يقول الآن إن كنت لا تريد أن تخسر أحدًا ما، لا تقم بإضافته على الفيسبوك، وأنه عصر العلاقات العابرة تبدأ بإضافة وتنتهي بحظر.
من الجهة المعاكسة تبدأ حالة أخرى لدى فئة «المشهورين» وهي الخوف من الرفض، ماذا لو لم يحز ما سأقوم بنشره على الإعجاب؟ ماذا لو كانت هذه الفكرة غير مألوفة لهم؟ ماذا لو كان رأيي معاكسًا لهم؟ حتى لو لم يُعلنوا ذلك أو حتى لم يبدو عليهم ذلك، ستدور حتمًا هذه الأفكار داخلهم، بل ماذا لو أقدموا على خطوة ما لا يتوقعها المتابعون – وإن كانت قريبة لشخصيته الحقيقة – لا التي رسموها له.
من ثمَّ أخذ هوس بحب الظهور في الانتشار ولو على استحياء، لنجد أشخاصًا يقومون بصنع عدة حسابات بأسماء مختلفة ويقومون بالرد على أنفسهم، ظهر مثلًا بموقع الجودريدز حالة أخرى، ليقوم كاتب ما بإنشاء عدة حسابات مزيفة ليعطي كتابه تقييمات جيدة، خلق شخصيات مزيفة تمامًا، ليس هكذا فقط بل خلق شخصية وردم شخصيتهم الحقيقة والتفاعل مع الآخرين بشخصياتهم المزيفة وهذا أكثر ألمًا.
مثلًا، نتاليا ذات الثمان وعشرين عامًا، نتاليا كان لديها هوس بإغواء المراهقين والدخول معهم في علاقات عاطفية، ثم تنهي العلاقة ولا تكتفي بذلك، بل كانت تصنع نهاية مأساوية للشخصية التي خلقتها غالبًا ما تقتل الشخصيات التي صنعتها، ويمكنك أن تتخيل الأذى النفسي الذي يلحق بالأطراف الأخرى، مرة لإنهاء العلاقة، ومرة لموت الشخص الذي يحبون، بل إن تم اكتشاف أن هذا كله خدعة وأنهم أحبوا سرابًا لا وجود له أساسًا، كيف سيكون مردود ذلك على مراهقين ما زالوا في بدايةِ حياتهم، غالبًا لن يثقوا في أحد مرة أخرى.
الفيديو عن حالة ناتاليا.
من الترفيه للقتل
الأمور أيضًا لم تتوقف عند هذا الحد، تفاقمت ومازالت، حتى وصلت لحدوث جرائم قتل وعنف بسبب السوشيال ميديا. نُشرت مقالة بعنوان: عشرون حالة موت جنونية بسبب السوشيال ميديا!
مثلًا: ليزا التي ظلت تكتب وتصرخ على زوجها السابق بسبب رعاية ابنه، بدلًا من أن يقوم بحظرها فقط، قام بقتلها!
أسباب الوفاة كثيرة، منها الـPOKE
عندما تصير الحياة لعبة، سكوت هامبهري، قام بقتل صديقه لأنه قام بـPOKE صديقته! هكذا بمنتهى البساطة.
تابعوهم واحترموا مساحتهم الشخصية
هذا ما وصلت إليه الأمور الآن وقد لا تقف عند هذا الحد ولا أستطيع أن أتخيل ما الذي قد يكون أسوأ من الموت، تابعوهم دون أن تنخرطوا معهم تمامًا أو تصدقوا كل ما يقولونه، دون أن تعبروا مساحتهم الشخصية وتعتبروها حقًا مشروعًا لكم.