لم يره أحد ، حسبه البعض شخصية اسطورية أو شخصية هاربة من رواية ما لم يستطع الكاتب اكمالها ، لذلك لم يستطع أحد الإمساك به ، كان يفر دومًا قبل أن يُقبض عليه ، احترف الفرار حتى صار يفعله دون أي مجهود ، من مكان لمكان ومن عالم لآخر ، كان معلوماً للجميع ، مجهولاً لنفسه ، حضر عندهم وغاب عن نفسه .
ظل هكذا عمرًا يعيش في الفرار ، حسدهُ الآخرون على سرعته ، حسدوه على وجوهه الكثيرة ، حسدوه على صوته الذي كانوا يسمعونه فجرًا .حسدوه أنه كان لا يموت ، كان خالدًا ، توالى على الأجيال ، لم تتغير ملامحه .يركض سريعًا ، سريعًا ، كان الهواء يعرفه ، والأشجار تساعده ، تنحني له ليمر ، تخلق له طرقًا لا مرئية ، كان كل شيء يساعده على الفرار .
هل كان يريده فعلاً ؟
لا يعرف ، وربما لن يعرف أبدًا، لكنه قال ذات مرة أن هذا ما يتقن فعله ، يتقنه باحتراف ، كان يشعر بداخله طوال الوقت أنه لص ، مطلوب للعدالة من العالم أجمع ، وأنه إن لم يسرع سيقبض عليه .
كان له في كل بلد صاحب أو اثنين ، يتنقل في العام الواحد بين بلدان كثيرة ، مرت عليه وجوه يكاد لا يحصيها ، هل كان يذكرهم ؟ لم ينساهم ، لكنه لم يستطع دومًا التعرف عليهم ، أحياناً عندما كان يمر بجوار أحدهم يشعر بوغزٍ في قلبه ، فيعلم أن ثمة شيء ما ، رابط ما ، بينه وبينه .
كان يذكر كل شيء وينسى كل شيء ، لا وسط عنده ،قد يسرد عليك قصة خلوده ، قد ينسى من هو .
من هو ؟
كان لا يعرف من هو ، أو عله كان يدعي ذلك لنُصدقه ، أو ليساعد نفسه على الفرار ، لكن في ذات الوقت كان لا يكذب .
كانت له مغامرات كثيرة ، في كل حرب نال نصيب ما ، ربما من قبل بدء الحياة ، انتصر كثيرًا في عقله ، أما هزائمه فلم يرها أحد ، لكنه ظل يذكرها كندوب معلقة في قلبه .
لم يكن نبيًا أو رسولاً ، لا بشرًا أو ملاك أو حتى شيطان ، كان بلا جنس أو هوية ، لكنه كان خائفًا
صُنع من خوف .
خوف من ماذا ؟
هو نفسه لا يعرف ، ظل حياته يطارد أشياء لا يراها إلا هو ، مهما حدّث الآخرين عنها كانوا لا يبصرونها ، حتى توقف عن الحديث تمامًا عندما تأكد أن كل ما يقوله لا يفهمه أحد ، فأخذ يصمت و يفر .
وكان فراره ألمًا ، هربًا من ألم آخر يجهله لكنه يعلم أنه قد يصاب به ، فاختار ما يعرفه لتجنب ما يجهله ، كان كلما ركض يقطر دمًا ، في مرة نزف ، نزف تماماً إلى أن صار جسده خاويًا
بلا دماء
فرغ
ثم غرق
.
رأي الاخرين يسبحون في دمه ويضحكون ، ظل يسمع أصواتهم حتى خفتت ، ثم اختفت ، فاعتقد أنه مات ، لكنه لم يفعل ، وفكر أن عليه أن يملأ جسده مرة أخرى ، قفز إلى النهر ، ملأ جسده بالماء ، تسلل إلى جسده حيوات أخرى ، أسماك ، أعشاب وقواقع ، وأشياء لا يعرفها لكنه شعر بها داخله .
شاركته الحيوات ماءه ، فأخذت تقل فظل يملأ نفسه كل حين ، لا ليستمر على قيد الحياة لأنه لا يموت ، بل لأن حيوات أخرى صارت مسؤلة منه .
لم ينعم بالراحة منذ ذلك الحين ، أخذت الحيوات تتصارع فيما بينها ، كان يشعر بجوع بعضها وشعر بألم بعضها الآخر وهي تؤكل .
لم ينحز لأحد
ولم يتغير شيء ، ظل يفر ، يفر ، لكن بمائه ،
وبحيواتٍ أخرى معه .
.
في حياة من حيواتهِ شحب لونه ، وصار بلا لون ، شفافًا تماماً ، لكنه يُظهر ما بداخله ، اعتقد بذلك أنه سَمى بنفسه ، وأصبح في مرتبة أعلى ، لكن الناس ظلوا يطيلون النظر إليه ، لا لأنهم استغربوا شفافيته ، بل لأنهم صاروا يرون داخله ، في مرة استوقفه شخص لا يعرفه لأن قرأ في عقله فكرة لم تعجبه فأخذ يعنفه ، في مرة أخرى استوقفه طفل صغير مشيرًا باتجاهه، ثم وضع إصبعه في مكان في صدره ، وقال : لماذا هناك ثقب هنا ؟
مرة أخرى تلقى ضربة اسقطته أرضًا ، كانت حيث رقد جرح منذ سنوات في قدمه ، أخذ يعرج وكأنه أصيب الآن مرة أخرى ، أدرك حينها أنهم يرون كل ندوبه ظاهره .
مشى الآخرون على ندوبه .
فعرف أن عليه أن يفر .
.
في وقت ما شعر أنه خُلق للفرار فقط لا شيء آخر ، فشل في كل شيء تقريبًا ، فشل في حياته ، لم يفلح أبدًا في الحب ، تركه أصدقاؤه ، ولم يستطع أن يوفر لنفسه عيشة آمنة ، لكنه نجح دائمًا في الفرار .
استسلم لهذه الفكرة ، أن الفرار هو الشيء الوحيد الباقي معه أبدًا ، لذا فكر بإعادة تشكليه ، أخذ يحاول أن يضيف للفرار حيوات أخرى ، صفات أخرى ، فمرة تخيله صديقه الوفي ، مرة تخيله عمل نجح فيه بجدارة ، مرة حبيبته ،
ماذا كان يتوقع ؟
رسم حياة أخرى كاملة – في مخيلته
ففرت منه .
.
في حياة أخرى قرر أن عليه المحاولة مرة أخرى ، أن يبدأ من جديد، فأخذ يتشبه بمن حوله ، يلبس مثلهم ويتحدث مثلهم ، حتى في الأكل ، المشي ، حتى صار مثلهم تمامًا ،لكن لم يقترب منه أحد، كان يطرق الأبواب بلا تفكير ، باندفاع وبقوة ، لم يُفتح له ، كان يعتقد أنه مجهول لهم طيلة عمره ، لكن كان على العكس ، أدرك في وقت ما ، أنه هو فقط من لم يعرف نفسه .
كل الذين فر منهم ، يفرون منه الآن .
ماذا كان يتوقع ؟
ماذا كان يريد ؟
لم يعرف ، وربما لن يعرف أبدًا ، لكنه في وهلة ما بينه وبين نفسه أدرك ، أنه ظل طيلة حياته التي لم تنتهي ، يتمنى أن يُمسك به أحد .